الاسلام: 08/29/10

الأحد، 29 أغسطس 2010

رمضان كريم


المجلس الثاني :
في فضل الصيام
الحمد لله اللطيف الرؤوف المنان , الغني القوي السلطان , الحليم الكريم ، الرحيم الرحمن ، الأول فلا شيء
] قبله والآخر فلا شيء بعده , والظاهر فلا شيء فوقه , الباطن فلا شيء دونه , المحيط علما بما يكون وما كان , يُعِز ويُذِل , ويُفْقِر ويُغْنِي , ويفعل ما يشاء بحكمته , كل يوم هو في شأن , أرسى الأرض بالجبال في نواحيها , وأرسل السحاب الثقال بماء يحييها , وقضى بالفناء على جميع ساكنيها , ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ، ويجزي المحسنين بالإحسان .
أحمده على الصفات الكاملة الْحِسان , وأشكره على نِعَمه السابغة وبالشكر يزيد العطاء والامتنان , وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، الملك الديَّان ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المبعوث إلى الإنس والجان ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان ما توالت الأزمان , وسلم تسليما .
إخواني : اعلموا أن الصوم من أفضل العبادات وأَجَلِّ الطاعات , جاءت بفضله الآثار , ونقلت فيه بين الناس الأخبار .

* فمن فضائل الصوم : أن الله كتبه على جميع الأمم وفرضه عليهم : { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [ البقرة : 183 ] ، ولولا أنه عبادة عظيمة لا غنى للخلق عن التعبد بها لله وعما يترتب عليها من ثواب ما فرضه الله على جميع الأمم .
* ومن فضائل الصوم في رمضان : أنه سبب لمغفرة الذنوب وتكفير السيئات , فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « من صام رمضان إيمانا واحتسابا غُفِر له ما تقدم من ذنبه » (1) ، يعني إيمانا بالله ورضا بفرضيَّة الصوم عليه واحتسابا لثوابه وأجره , ولم يكن كارها لفرضه ولا شاكًّا في ثوابه وأجره , فإن الله يغفر له ما تقدم من ذنبه .
* وعن أبي هريرة أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة مكَفِّرات لما بينهن إذا اجْتُنِبَت الكبائر » (2) .
_________
(1) متفق عليه .
(2) رواه مسلم .

ومن فضائل الصوم : أن ثوابه لا يتقيد بعدد معين بل يُعْطَى الصائم أجره بغير حساب , فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « قال الله تعالى : كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به ، والصيام جُنَّة فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب ، فإن سابَّه أحد أو قاتله فليقل : إني صائم , والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك , للصائم فرحتان يفرحهما : إذا أفطر فرح بفطره , وإذا لقي ربه فرح بصومه » (1) ، وفي رواية لمسلم : « كل عمل ابن آدم له يضاعَف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف ، قال الله تعالى : إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به ، يَدَعُ شهوته وطعامه من أجلي » .
وهذا الحديث الجليل يدل على فضيلة الصوم من وجوه عديدة :
_________
(1) متفق عليه .

- الأول : أن الله اختص لنفسه الصوم من بين سائر الأعمال ؛ وذلك لشرفه عنده ومحبته له وظهور الإخلاص له سبحانه فيه ؛ لأنه سر بين العبد وبين ربه ، لا يطَّلع عليه إلا الله , فإن الصائم يكون في الموضع الخالي من الناس متمكِّنا من تناول ما حرم الله عليه بالصيام فلا يتناوله ؛ لأنه يعلم أن له ربا يطَّلِع عليه في خلوته , وقد حرم عليه ذلك فيتركه لله خوفا من عقابه ورغبة في ثوابه ، فمن أجل ذلك شكر الله له هذا الإخلاص ، واختص صيامه لنفسه من بين سائر أعماله ؛ ولهذا قال : « يدع شهوته وطعامه من أجلي » ، وتظهر فائدة هذا الاختصاص يوم القيامة كما قال سفيان بن عُيَيْنة رحمه الله : إذا كان يوم القيامة يحاسب الله عبده ، ويؤدي ما عليه من المظالم من سائر عمله حتى إذا لم يبقَ إلا الصوم يتحمل الله عنه ما بقي من المظالم ، ويدخله الجنة بالصوم .

- الثاني : أن الله قال في الصوم : « وأنا أجزي به » , فأضاف الجزاء إلى نفسه الكريمة ؛ لأن الأعمال الصالحة يضاعف أجرها بالعدد , الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة , أما الصوم فإن الله أضاف الجزاء عليه إلى نفسه من غير اعتبار عدد , وهو سبحانه أكرم الأكرمين وأجود الأجودين .
والعطيَّة بقدر معطيها فيكون أجر الصائم عظيما كثيرا بلا حساب , والصيام صبر على طاعة الله ، وصبر عن محارم الله , وصبر على أقدار الله المؤلمة من الجوع والعطش وضعف البدن والنفس , فقد اجتمعت فيه أنواع الصبر الثلاثة ، وتحقَّقَ أن يكون الصائم من الصابرين , وقد قال الله تعالى : { إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [ الزمر : 10 ] .
- الثالث : أن الصوم جُنَّة أي : وقاية وستر يقي الصائم من اللغو والرفث , ولذلك قال : « " فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب » ، ويقيه أيضا من النار , ولذلك رُوي عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « الصيام جنة يَسْتَجِنُّ بها العبد من النار » (1) .
_________
(1) رواه الإمام أحمد بإسناد حسن .

- الرابع : أن خَلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك ؛ لأنها من آثار الصيام فكانت طيبة عند الله سبحانه ومحبوبة له , وهذا دليل على عظيم شأن الصيام عند الله حتى إن الشيء المكروه المستخْبَث عند الناس يكون محبوبا عند الله وطيبا لكونه نشأ عن طاعته بالصيام .
- الخامس : أن للصائم فرحتين : فرحة عند فطره ، وفرحة عند لقاء ربه , أما فرحه عند فطره فيفرح بما أنعم الله عليه من القيام بعبادة الصيام الذي هو من أفضل الأعمال الصالحة , وكم من أناس حرموه فلم يصوموا , ويفرح بما أباح الله له من الطعام والشراب والنكاح الذي كان مُحَرَّما عليه حال الصوم . وأما فرحه عند لقاء ربه فيفرح بصومه حين يجد جزاءه عند الله تعالى مُوَفَّرا كاملا في وقت هو أحوج ما يكون إليه حين يقال : أين الصائمون ليدخلوا الجنة من باب الريَّان الذي لا يدخله أحد غيرهم ؟

وفي هذا الحديث إرشاد للصائم إذا سابَّه أحد أو قاتله أن لا يقابله بالمثل لئلا يزداد السباب والقتال , وأن لا يضعف أمامه بالسكوت ، بل يخبره بأنه صائم إشارة إلى أنه لن يقابله بالمثل احتراما للصوم لا عجزا عن الأخذ بالثأر , وحينئذ ينقطع السباب والقتال : { وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ }{ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ } [ فصلت : 34 - 35 ] .
- ومن فضائل الصوم : أنه يشفع لصاحبه يوم القيامة , فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة , يقول الصيام : أي رب منعتُه الطعام والشهوة فَشَفِّعْنِي فيه , ويقول القرآن : منعتُه النوم بالليل فَشَفِّعْنِي فيه , قال : فيشفعان » (1) .
_________
(1) رواه أحمد والطبراني والحاكم , وقال : صحيح على شرط مسلم , وقال المنذري : رجاله محتج بهم في الصحيح .

إخواني : فضائل الصوم لا تُدْرَك حتى يقوم الصائم بآدابه , فاجتهِدوا في إتقان صيامكم وحفظ حدوده ، وتوبوا إلى ربكم من تقصيركم في ذلك ، اللهم احفظ صيامنا واجعله شافعا لنا , واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين , وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه .





المجلس الثالث :
في حكم صيام رمضان
الحمد لله الذي لا مانع لما وهب , ولا معطيَ لما سلب ، طاعته للعالمين أفضل مكتسب , وتقواه للمتقين أعلى نسب ، هيأ قلوب أوليائه للإيمان وكتب ، وسهل لهم في جانب طاعته كل نَصَب , فلم يجدوا في سبيل خدمته أدنى تعب .
أحمده على ما منحنا من فضله ووهب , وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، هزم الأحزاب وغلب ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي اصطفاه الله وانتخب ، صلى الله عليه وعلى صحبه أبي بكر الفائق في الفضائل والرتب , وعلى عمر الذي فر الشيطان منه وهرب , وعلى عثمان ذي النورين التقي النقي الحسب , وعلى علي صهره وابن عمه في النسب , وعلى بقية أصحابه الذين اكتسبوا في الدين أعلى فخر ومكتسَب , وعلى التابعين لهم بإحسان ما أشرق النجم وغرب , وسلم تسليما .

إخواني : إن صيام رمضان أحد أركان الإسلام ومبانيه العظام , قال تعالى : { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }{ أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ }{ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [ البقرة : 183 - 185 ] .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : « بُنِيَ الإسلامُ على خمس : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وحج البيت ، وصوم رمضان » (1) ولمسلم : « وصوم رمضان وحج البيت » ، وأجمع المسلمون على فرضيَّة صوم رمضان إجماعا قطعيا معلوما بالضرورة من دين الإسلام , فمن أنكر وجوبه فقد كفر , فَيُسْتَتَاب فإن تاب وأقر بوجوبه وإلا قُتِلَ كافرا مُرْتَدًّا عن الإسلام ، لا يُغَسَّل ولا يُكفَّن ولا يُصلَّى عليه ولا يُدْعَى له بالرحمة ويدفَن لئلا يؤذي الناس برائحته ويتأذى أهله بمشاهدته .
فُرِضَ صيام رمضان في السنة الثانية من الهجرة ، فصام رسول الله صلى الله عليه وسلم تسع سنين , وكان فرض الصيام على مرحلتين :
* المرحلة الأولى : التخيير بين الصيام والإطعام مع تفضيل الصيام عليه .
_________
(1) متفق عليه .

* المرحلة الثانية : تعيين الصيام بدون تخيير , فعن سَلَمَةَ بن الأكوع رضي الله عنه قال : لما نزلت : { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } [ البقرة : 184 ] كان من أراد أن يفطر ويفتدي (يعني فَعَلَ ) حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها ، يعني بها قوله تعالى : { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } [ البقرة : 185 ] ، فأوجب الله الصيام عَيْنًا بدون تخيير (1) ، ولا يجب الصوم حتى يثبت دخول الشهر ، فلا يصوم قبل دخول الشهر لقول النبي صلى الله عليه وسلم : « لا يتقدمن أحدكم بصوم يوم أو يومين إلا أن يكون رجلٌ كان يصوم صومه فليصم ذلك اليوم » (2) ، ويُحْكَم بدخول شهر رمضان بواحد من أمرين :
* الأول : رؤية هلاله لقوله تعالى : { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } , وقول النبي صلى الله عليه وسلم : « إذا رأيتم الهلال فصوموا » (3) ، ولا يشترط أن يراه كل واحد بنفسه ، بل إذا رآه من يثبت بشهادته دخول الشهر وجب الصوم على الجميع .
_________
(1) متفق عليه .
(2) رواه البخاري .
(3) متفق عليه .

ويُشترط لقبول الشهادة بالرؤية أن يكون الشاهد بالغا عاقلا مسلما موثوقا بخبره لأمانته وبصره ، فأما الصغير فلا يثبت الشهر بشهادته لأنه لا يُوثَق به وأَوْلَى منه المجنون ، والكافر لا يثبت الشهر بشهادته أيضا لحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال : « جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إني رأيت الهلال - يعني رمضان - . فقال : " أتشهد أن لا إله إلا الله ؟ " قال : نعم . قال : " أتشهد أن محمدا رسول الله ؟ " قال : نعم . قال : " يا بلال أَذِّنْ في الناس فليصوموا غدا » (1) ، ومن لا يُوثَق بخبره بكونه معروفا بالكذب أو بالتسرع أو كان ضعيف البصر بحيث لا يمكن أن يراه فلا يثبت الشهر بشهادته للشك في صدقه أو رجحان كذبه ، ويثبت دخول شهر رمضان خاصة بشهادة رجل واحد « لقول ابن عمر رضي الله عنهما : تراءى الناس الهلال فأخبرتُ النبي صلى الله عليه وسلم أني رأيته فصام وأمر الناس بصيامه » (2) ، ومن رآه متيقنا رؤيته وجب عليه إخبار ولاة الأمور بذلك , وكذلك من رأى هلال شوال وذي الحجة ؛ لأنه يترتب على ذلك واجب الصوم والفطر والحج - وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب - ، وإن رآه وحده في مكان بعيد لا يمكنه إخبار ولاة
_________
(1) أخرجه الخمسة إلا أحمد .
(2) رواه أبو داود والحاكم وقال : على شرط مسلم .

الأمور فإنه يصوم ويسعى في إيصال الخبر إلى ولاة الأمور بقدر ما يستطيع .
وإذا أُعْلِن ثبوت الشهر من قِبَل الحكومة بالمذياع أو غيره وجب العمل بذلك في دخول الشهر وخروجه في رمضان أو غيره ؛ لأن إعلانه من قِبَلِ الحكومة حجة شرعية يجب العمل بها ، ولذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم بلالا أن يؤذن في الناس معلنا ثبوت الشهر ليصوموا حين ثبت عنده صلى الله عليه وسلم دخوله ، وجعل ذلك الإعلام ملزما لهم بالصيام .
وإذا ثبت دخول الشهر ثبوتا شرعيا فلا عبرة بمنازل القمر ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم علَّق الحكم برؤية الهلال لا بمنازله فقال صلى الله عليه وسلم : « إذا رأيتم الهلال فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا » (1) ، وقال صلى الله عليه وسلم : « إن شهد شاهدان مسلمان فصوموا وأفطروا » (2) .
_________
(1) متفق عليه .
(2) رواه أحمد , وإسناده لا بأس به على اختلاف فيه , وله شاهد عند أبي داود والدارقطني وقال : هذا إسناد متصل صحيح .

- الأمر الثاني : مما يُحْكَم فيه بدخول الشهر : إكمال الشهر السابق قبله ثلاثين يوما ؛ لأن الشهر القمري لا يمكن أن يزيد على ثلاثين يوما ، ولا ينقص عن تسعة وعشرين يوما , وربما يتوالى شهران أو ثلاثة إلى أربعة ثلاثين يوما , أو شهران أو ثلاثة إلى أربعة تسعة وعشرين يوما , لكن الغالب شهر أو شهران كاملة والثالث ناقص ، فمتى تم الشهر السابق ثلاثين يوما حُكِمَ شرعا بدخول الشهر الذي يليه وإن لم يُرَ الهلال لقول النبي صلى الله عليه وسلم : « صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غُمِّيَ عليكم الشهر فعدوا ثلاثين » (1) ، وعند البخاري : « فإن غُبِّيَ عليكم فأكملوا عدَّة شعبان ثلاثين » ، وفي حديث عائشة رضي الله عنها قالت : « كان النبي صلى الله عليه وسلم يتحفظ من شعبان ما لا يتحفظ من غيره ثم يصوم لرؤية رمضان , فإن غمَّ أتم عليه ثلاثين يوما ثم صام » (2) .
وبهذه الأحاديث تبَيَّن أنه لا يصام رمضان قبل رؤية هلاله , فإن لم يُرَ الهلال أُكْمِلَ شعبانُ ثلاثين يوما ، ولا يصام يوم الثلاثين منه سواء كانت الليلة صحوا أم غيما لقول عمار بن ياسر رضي الله عنه : « من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم » (3) .
_________
(1) رواه مسلم .
(2) أخرجه ابن خزيمة وأبو داود والدارقطني وصححه .
(3) رواه أبو داود والترمذي والنسائي ، وذكره البخاري تعليقا .

اللهم وَفِّقْنَا لاتباع الهدى ، وجنِّبْنا أسباب الهلاك والشقاء ، واجعل شهرنا هذا لنا شهر خير وبركة ، وأعنا فيه على طاعتك ، وجنِّبْنا طرق معصيتك ، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين .


المجلس الرابع :
في حكم قيام رمضان
الحمد لله الذي أعان بفضله الأقدام السالكة ، وأنقذ برحمته النفوس الهالكة ، ويسَّر من شاء لليسرى فرغب في الآخرة ، أحمده على الأمور اللذيذة والشائكة ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، ذو العزة والقهر فكل النفوس له ذليلة عانية ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله القائم بأمر ربه سرا وعلانية ، صلى الله عليه وعلى صاحبه أبي بكر الذي تُحَرِّض عليه الفرقة الآفكة ، وعلى عمر الذي كانت نفسه لنفسه مالكة ، وعلى عثمان منفق الأموال المتكاثرة ، وعلى علي مفرِّق الأبطال في الجموع المتكاثفة ، وعلى بقية الصحابة والتابعين لهم بإحسان ما قرعت الأقدام السالكة ، وسلم تسليما .
إخواني : لقد شرع الله لعباده العبادات ونوَّعها لهم ليأخذوا من كل نوع منها بنصيب ، ولئلا يملوا من النوع الواحد فيتركوا العمل فيشقى الواحد منهم ويخيب ، وجعل منها فرائض لا يجوز النقص فيها ولا الإخلال ، ومنها نوافل يحصل بها زيادة التقرب إلى الله والإكمال .
* فمن ذلك الصلاة : فرض الله منها على عباده خمس صلوات في اليوم والليلة خمسا في الفعل وخمسين في الميزان ، وندب الله إلى زيادة التطوع من الصلوات تكميلا لهذه الفرائض وزيادة في القُربى إليه ، فمن هذه النوافل الرواتب التابعة للصلوات المفروضة : ركعتان قبل صلاة الفجر ، وأربع ركعات قبل الظهر ، وركعتان بعدها ، وركعتان بعد المغرب ، وركعتان بعد العشاء ، ومنها صلاة الليل التي امتدح الله في كتابه القائمين بها فقال سبحانه : { وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا } [ الفرقان : 64 ] ، وقال : { تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ }{ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [ السجدة : 16 ، 17 ] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : « أفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل » (1) ، وقال صلى الله عليه وسلم : « أيها الناس أفشوا السلام ، وأطعموا الطعام ، وصِلُوا الأرحام ، وصَلُّوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام » (2) .
_________
(1) رواه مسلم .
(2) رواه الترمذي وقال : حسن صحيح وصححه الحاكم .
ومن صلاة الليل الوتر ، أقله ركعة وأكثره إحدى عشرة ركعة ، فيُوتِر بركعة مفردة لقول النبي صلى الله عليه وسلم : « من أحب أن يوتر بواحدة فليفعل » . " (1) ، فإن أحب سردها بسلام واحد لما روى الطحاوي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أوتر بثلاث ركعات لم يسلم إلا في آخرهن , وإن أحب صلى ركعتين وسلم ثم صلى الثالثة لما روى البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه كان يسلم بين الركعتين والركعة في الوتر حتى كان يأمر ببعض حاجته ، ويوتر بخمس فيسردها جميعا لا يجلس ولا يسلم إلا في آخرهن لقول النبي صلى الله عليه وسلم : « من أحب أن يوتر بخمس فليفعل » . " (2) وعن عائشة رضي الله عنها قالت : « كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة يوتر من ذلك بخمس لا يجلس في شيء منهن إلا في آخرهن » . (3) ، ويوتر بسبع فيسردها كالخمس لقول أم سلمة رضي الله عنها : « كان النبي صلى الله عليه وسلم يوتر بسبع وبخمس لا يفصل بينهن بسلام ولا كلام » (4) .
_________
(1) رواه أبو داود والنسائي .
(2) رواه أبو داود والنسائي .
(3) متفق عليه .
(4) رواه أحمد والنسائي وابن ماجه .
ويُوتِر بتسع فيسردها لا يجلس إلا في الثامنة ، فيقرأ التشهد ويدعو ثم يقوم ولا يسلم فيصلي التاسعة ويتشهد ويدعو ويسلم لحديث عائشة رضي الله عنها في وِتر رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت : « كان يصلي تسع ركعات لا يجلس فيها إلا في الثامنة فيذكر الله ويحمده ويدعوه ثم ينهض ولا يسلم ، ثم يقوم فيصلي التاسعة ثم يقعد فيذكر الله ويحمده ويدعوه ثم يسلم تسليما يسمعنا » (1) ويصلي إحدى عشرة ركعة ، فإن أحب سلَّم من كل ركعتين وأوتر بواحدة لحديث عائشة رضي الله عنها قالت : « كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي ما بين أن يفرغ من صلاة العشاء إلى الفجر إحدى عشرة ركعة يسلم بين كل ركعتين ويوتر بواحدة » (2) ، وإن أحب صلى أربعا ثم أربعا ثم ثلاثا لحديث عائشة رضي الله عنها قالت : « كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي أربعا » (3) « فلا تسأل عن حسنهن وطولهن ، ثم يصلي أربعا ، فلا تسأل عن حسنهن وطولهن ، ثم يصلي ثلاثا » (4) وقال الفقهاء من الحنابلة والشافعية : يجوز في الوتر بإحدى عشرة أن يسردها بتشهد واحد أو بتشهدين في الأخيرة والتي قبلها .
_________
(1) رواه أحمد ومسلم .
(2) رواه الجماعة إلا الترمذي .
(3) يحتمل أن تكون الأربع بتسليم واحد وهو ظاهر اللفظ ، ويحتمل أن تكون بتسليم من كل ركعتين ، لكنه إذا صلى أربعا فصل ، ثم صلى أربعا كذلك ، وهذا هو الموافق لقوله صلى الله عليه وسلم : « صلاة الليل مثنى مثنى » .
(4) متفق عليه .
وصلاة الليل في رمضان لها فضيلة ومزية على غيرها لقول النبي صلى الله عليه وسلم : « من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه » . (1) ومعنى قوله : " إيمانا " أي : إيمانا بالله وبما أعَدَّه من الثواب للقائمين ، ومعنى قوله : " احتسابا " أي : طلبا لثواب الله لم يحمله على ذلك رياء ولا سمعة ولا طلب مال ولا جاه ، وقيام رمضان شامل للصلاة في أول الليل وآخره ، وعلى هذا فالتراويح من قيام رمضان ، فينبغي الحرص عليها والاعتناء بها واحتساب الأجر والثواب من الله عليها ، وما هي إلا ليالٍ معدودة ينتهزها المؤمن العاقل قبل فواتها ، وإنما سُمِّيَتْ تراويحَ لأن الناس كانوا يطيلونها جدا فكلما صلوا أربع ركعات استراحوا قليلا .
_________
(1) متفق عليه .
وكان النبي صلى الله عليه وسلم أول من سَنَّ الجماعة في صلاة التراويح في المسجد ، ثم تركها خوفا من أن تُفْرَض على أمته ، فعن عائشة رضي الله عنها « أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في المسجد ذات ليلة وصلى بصلاته ناس ثم صلى من القابلة ، وكثر الناس ثم اجتمعوا من الليلة الثالثة أو الرابعة فلم يخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما أصبح قال : " قد رأيت الذي صنعتم فلم يمنعني من الخروج إليكم إلا أني خشيت أن تُفْرَض عليكم » (1) وذلك في رمضان . « وعن أبي ذر رضي الله عنه قال : صمنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فلم يقم بنا حتى بقي سبع من الشهر ، فقام بنا حتى ذهب ثلث الليل ، ثم لم يقم بنا في السادسة ثم قام بنا في الخامسة حتى ذهب شطر الليل أي : نصفه ، فقلنا : يا رسول الله لو نَفَلْتَنَا بقية ليلتنا هذه ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : " إنه من قام مع الإمام حتى ينصرف كُتِبَ له قيام ليلة » (2) .
_________
(1) متفق عليه .
(2) رواه أهل السنن بسند صحيح .
واختلف السلف الصالح في عدد الركعات في صلاة التروايح والوتر معها فقيل : إحدى وأربعون ركعة ، وقيل : تسع وثلاثون ، وقيل : تسع وعشرون ، وقيل : ثلاث وعشرون ، وقيل : تسع عشرة ، وقيل : ثلاث عشرة ، وقيل : إحدى عشرة ، وقيل غير ذلك ، وأرجح هذه الأقوال أنها إحدى عشرة أو ثلاث عشرة لِمَا رُوِيَ عن عائشة رضي الله عنها « أنها سُئِلَتْ : كيف كانت صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان ؟ فقالت : ما كان يزيد في رمضان ولا غيره على إحدى عشرة ركعة » (1) ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : « كانت صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث عشرة ركعة يعني من الليل » (2) وعن السائب بن يزيد رضي الله عنه قال : أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه أُبَيَّ بن كعب وتميما الداري أن يقوما للناس بإحدى عشرة ركعة (3) ، وكان السلف الصالح يطيلونها جدا ، ففي حديث السائب بن يزيد رضي الله عنه قال : كان القارئ يقرأ بالمئين يعني بمئات الآيات حتى كنا نعتمد على العصي من طول القيام ، وهذا خلاف ما عليه كثير من الناس اليوم حيث يصلون التراويح بسرعة عظيمة لا يأتون فيها بواجب الهدوء والطمأنينة التي هي ركن من أركان الصلاة لا تصح الصلاة بدونها ، فيخلون بهذا
_________
(1) متفق عليه .
(2) رواه البخاري .
(3) رواه الإمام مالك في الموطأ .
الركن ويتعبون من خلفهم من الضعفاء والمرضى وكبار السن ، يجنون على أنفسهم ويجنون على غيرهم ، وقد ذكر العلماء رحمهم الله أنه يُكْرَه للإمام أن يُسرع سرعة تمنع المأمومين فعل ما يسن ، فكيف بسرعة تمنعهم فعل ما يجب ؟ نسأل الله السلامة .

ولا ينبغي للرجل أن يتخلف عن صلاة التراويح لينال ثوابها وأجرها , ولا ينصرف حتى ينتهي الإمام منها ومن الوتر ليحصل له أجر قيام الليل كله ، ويجوز للنساء حضور التراويح في المسجد إذا أمنت الفتنة منهن وبهن لقول النبي صلى الله عليه وسلم : « لا تمنعوا إماء الله مساجد الله » . " (1) ، ولأن هذا من عمل السلف الصالح رضي الله عنهم ، لكن يجب أن تأتي متسترة متحجبة غير متبرجة ولا متطيبة ولا رافعة صوتا ولا مبدية زينة لقوله تعالى : { وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا } [ النور : 31 ] ، أي : لكن ما ظهر منها فلا يمكن إخفاؤه وهو الجلباب والعباءة ونحوهما ، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم « لما أمر النساء بالخروج إلى الصلاة يوم العيد قالت أم عطية : يا رسول الله إحدانا لا يكون لها جلباب . قال : " لِتُلْبِسْهَا أختُها من جلبابها . » (2) والسنة للنساء أن يتأخرن عن الرجال ويبعدن عنهم ، ويبدأن بالصف المؤخَّر فالمؤخر عكس الرجال ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : « خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها ، وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها » (3) ، وينصرفن من المسجد فور تسليم الإمام ، ولا يتأخرن إلا لعذر « لحديث أم
_________
(1) متفق عليه .
(2) متفق عليه .
(3) رواه مسلم .

سلمة رضي الله عنها قالت : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سلم قام النساء حين يقضي تسليمه وهو يمكث في مقامه يسيرا قبل أن يقوم ، قالت : نرى - والله أعلم - أن ذلك كان لكي ينصرف النساء قبل أن يدركهن الرجال » (1) .
اللهم وفقنا لما وفقت القوم إليه ، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين .
_________
(1) رواه البخاري .
المجلس الخامس :
في فضل تلاوة القرآن وأنواعها
الحمد لله الداعي إلى بابه ، الموفق من شاء لصوابه ، أنعم بإنزال كتابه ، يشتمل على مُحْكَم ومتشابه ، فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ، وأما الراسخون في العلم فيقولون آمنا به ، أحمده على الهدى وتيسير أسبابه ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة أرجو بها النجاة من عقابه ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أكمل الناس عملا في ذهابه وإيابه ، صلى الله عليه وعلى صاحبه أبي بكر أفضل أصحابه ، وعلى عمر الذي أعز الله به الدين واستقامت الدنيا به ، وعلى عثمان شهيد داره ومحرابه ، وعلى علي المشهور بحل المشكِل من العلوم وكشف نقابه ، وعلى آله وأصحابه ومن كان أولى به ، وسلم تسليما .
إخواني : قال الله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ }{ لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ } [ فاطر : 29 - 30 ] .
تلاوة كتاب الله على نوعين : تلاوة حُكْميَّة وهي تصديق أخباره وتنفيذ أحكامه بفعل أوامره واجتناب نواهيه ، وسيأتي الكلام عليها في مجلس آخر إن شاء الله .
والنوع الثاني
تلاوة لفظية
وهي قراءته وقد جاءت النصوص الكثيرة في فضلها إما في جميع القرآن ، وإما في سور أو آيات معينة منه , فعن عثمان بن عفان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « خيركم من تعلم القرآن وعلمه » (1) ، وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة ، والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران » (2) .
والأجران أحدهما على التلاوة ، والثاني على مشقتها على القارئ ، وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « مَثَل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأترجَّة ريحها طيب وطعمها طيب ، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة لا ريح لها وطعمها حلو » (3) ، وعن أبي أمامة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه » (4) .
_________
(1) رواه البخاري .
(2) متفق عليه .
(3) متفق عليه .
(4) رواه مسلم .

وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « أفلا يغدو أحدكم إلى المسجد فيتعلم أو فيقرأ آيتين من كتاب الله عز وجل خير له من ناقتين ، وثلاث خير له من ثلاث ، وأربع خير له من أربع ومن أعدادهن من الإبل » (1) ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة ، وغشيتهم الرحمة ، وحفتهم الملائكة ، وذكرهم الله فيمن عنده » (2) وقال صلى الله عليه وسلم : « تعاهدوا القرآن فوالذي نفسي بيده لهو أشد تَفَلُّتًا من الإبل في عُقُلها » (3) ، وقال صلى الله عليه وسلم : « لا يقل أحدكم : نسيت آية كيت وكيت بل هو نُسِّيَ » (4) ؛ وذلك أن قوله : نَسِيت قد يُشْعِر بعدم المبالاة بما حفظ من القرآن حتى نسيه ، وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة والحسنة بعشر أمثالها ، لا أقول الم حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف » (5) وعنه رضي الله عنه أيضا أنه قال : « إن هذا القرآن مأدُبة الله فاقبلوا مأدبته ما استطعتم ، إن هذا القرآن حبل الله المتين والنور
_________
(1) رواه مسلم .
(2) رواه مسلم .
(3) متفق عليه .
(4) رواه مسلم .
(5) رواه الترمذي وقال : حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه ، وقد صححه بعض المتأخرين موقوفا على عبد الله .
المبين ، والشعاع النافع ، عصمة لمن تمسك به ونجاة لمن اتبعه لا يزيغ فيُسْتَعْتَب ولا يعوج فيقوم ولا تنقضي عجائبه ولا يخْلَق من كثرة الترداد ، اتلوه فإن الله يأجركم على تلاوته كل حرف عشر حسنات ، أمَا إني لا أقول الم حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف » (1) .
إخواني : هذه فضائل قراءة القرآن , وهذا أجره لمن احتسب الأجر من الله والرضوان ، أجور كبيرة لأعمال يسيرة ، فالمغبون من فرَّط فيه ، والخاسر من فاته الربح حين لا يمكن تلافيه ، وهذه الفضائل شاملة لجميع القرآن ، وقد وردت السنة بفضائل سور معينة مخصصة .
_________
(1) رواه الحاكم .
* فمن تلك السور سورة الفاتحة ، فعن أبي سعيد بن الْمُعلى رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له : « لأعلمنك أعظم سورة في القرآن : الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيتُه » (1) ، ومن أجل فضيلتها كانت قراءتها ركنا في الصلاة لا تصح الصلاة إلا بها ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : « لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب » (2) ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من صلى صلاة لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خِداج » يقولها ثلاثا , فقيل لأبي هريرة : إنا نكون وراء الإمام . فقال : اقرأ بها في نفسك (3) .
ومن السور المعينة سورة البقرة وآل عمران ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : « اقرءوا الزهراوين : البقرة وآل عمران ؛ فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيايتان ، أو كأنهما فِرْقان من طير صواف تُحَاجَّان عن أصحابهما ، اقرءوا سورة البقرة فإن أَخْذها بركة وتركها حسرة ، ولا تستطيعها البَطَلَة - يعني السَّحَرَة - » (4) .
_________
(1) رواه البخاري .
(2) متفق عليه .
(3) رواه مسلم .
(4) رواه مسلم .

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « إن البيت الذي تُقْرَأ فيه سورة البقرة لا يدخله الشيطان » (1) ؛ وذلك لأن فيها آية الكرسي ، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم « أن من قرأها في ليلة لم يزل عليه من الله حافظ ، ولا قربه شيطان حتى يُصْبِح .
»« وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن جبريل قال وهو عند النبي صلى الله عليه وسلم : " هذا باب قد فُتِحَ من السماء ما فُتِحَ قط ، قال : فنزل منه مَلَك فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أَبْشِرْ بنورين قد أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك : فاتحة الكتاب وخواتيم البقرة ، لن تقرأ بحرف منهما إلا أوتيته » (2) .
_________
(1) رواه مسلم .
(2) رواه مسلم .

ومن السور المعينة في الفضيلة { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } ، فعن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيها : « والذي نفسي بيده إنها تعدل ثلث القرآن » (1) ، وليس معنى كونها تعدله في الفضيلة أنها تجزئ عنه ، ولذلك لو قرأها في الصلاة ثلاث مرات لم تجزئه عن الفاتحة , ولا يلزم من كون الشيء معادلا لغيره في الفضيلة أن يجزئ ، فعن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الْمُلْك وله الحمد عشر مرات كان كمن أعتق أربعة أنفس من ولد إسماعيل » (2) ومع ذلك فلو كان عليه أربع رقاب كفارة فقال هذا الذكر لم يُجْزِئه عن هذه الرقاب وإن كان يعادلها في الفضيلة .
_________
(1) رواه البخاري .
(2) متفق عليه .

فاجتهدوا إخواني في كثرة قراءة القرآن المبارك لا سِيَّمَا في هذا الشهر الذي أنزل فيه ، فإن لكثرة القراءة فيه مزية خاصة ، وكان جبريل يعارض النبي صلى الله عليه وسلم القرآن في رمضان كل سنة مرة ، فلما كان العام الذي توفي فيه عارضه مرتين تأكيدا وتثبيتا ، وكان السلف الصالح رضي الله عنهم يُكْثِرون من تلاوة القرآن في رمضان في الصلاة وغيرها ، وكان الزهري رحمه الله إذا دخل رمضان يقول : إنما هو تلاوة القرآن وإطعام الطعام ، وكان مالك رحمه الله إذا دخل رمضان ترك قراءة الحديث ومجالس العلم وأقبل على قراءة القرآن من المصحف ، وكان قتادة رحمه الله يختم القرآن في كل سبع ليالٍ دائما وفي رمضان في كل ثلاث ، وفي العشر الأخير منه في كل ليلة ، وكان إبراهيم النخعي رحمه الله يختم القرآن في رمضان في كل ثلاث ليالٍ وفي العشر الأواخر في كل ليلتين ، وكان الأسود رحمه الله يقرأ القرآن كله في ليلتين في جميع الشهر .

فاقتدوا رحمكم الله بهؤلاء الأخيار واتَّبِعوا طريقهم تلحقوا بالبَرَرَة الأطهار ، واغتنموا ساعات الليل والنهار بما يُقَرِّبكم إلى العزيز الغفار ، فإن الأعمار تُطْوَى سريعا والأوقات تمضي جميعا وكأنها ساعة من نهار .
اللهم ارزقنا تلاوة كتابك على الوجه الذي يرضيك عنا ، واهدنا به سبل السلام ، وأخرجنا به من الظلمات إلى النور ، واجعله حجة لنا لا علينا يا رب العالمين .
اللهم ارفع لنا به الدرجات ، وأنقذنا به من الدركات ، وكفر عنا به السيئات ، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

شهر رمضان وفضل الصيام

شهر رمضان وفضل الصيام :

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، عز من اعتز به فلا يضام ، وذل من تكبر عن طاعته ولقي الآثام ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي بَيَّنَ الحلال والحرام ، صلى الله عليه وعلى صاحبه أبي بكر الصديق ، الذي هو في الغار خير رفيق ، وعلى عمر بن الخطاب ، الذي وُفِّقَ للصواب ، وعلى عثمان مصابر البَلا ، ومن نال الشهادة العظمى من أيدي العدا ، وعلى ابن عمه علي بن أبي طالب وعلى جميع الصحبة والتابعين لهم بإحسان ما غاب في الأفق غارب ، وسلم تسليما .
إخواني : لقد نزل بكم عشر رمضان الأخيرة فيها الخيرات والأجور الكثيرة ، فيها الفضائل المشهورة والخصائص العظيمة :
* فمن خصائصها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجتهد بالعمل فيها أكثر من غيرها ، فعن عائشة رضي الله عنها « أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره » (1) ، وعنها : قالت : « كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل العَشرُ شد مئزره وأحيا ليله وأيقظ أهله » (2) ، وعنها قالت : « كان النبي صلى الله عليه وسلم يخلط العشرين بصلاة ونوم ، فإذا كان العشر شمر وشد المئزر » (3) .
_________
(1) رواه مسلم .
(2) متفق عليه .
(3) رواه الإمام أحمد .
المجلس الأول : في فضل شهر رمضان
الحمد لله الذي أنشأ وبرا ، وخلق الماء والثرى ، وأبدع كل شيء وذرا ، لا يغيب عن بصره صغير النمل في الليل إذا سرى ، ولا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ، { لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى }{ وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى }{ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى } [ طه : 6 - 8 ] ، خلق آدم فابتلاه ثم اجتباه فتاب عليه وهدى ، وبعث نوحا فصنع الفُلْك بأمر الله وجرى ، وَنَجَّى الخليل من النار فصار حرها بردا وسلاما عليه ، فاعتبِروا بما جرى ، وآتى موسى تسع آيات فما ادَّكر فرعون وما ارعوى ، وأيَّد عيسى بآيات تبهر الورى ، وأنزل الكتاب على محمد فيه البيِّنات والهدى ، أحمده على نعمه التي لا تزال تترى ، وأصلي وأسلم على نبيه محمد المبعوث في أم القرى , صلى الله عليه وعلى صاحبه في الغار أبي بكر بلا مرا ، وعلى عمر الملهَم في رأيه فهو بنور الله يرى , وعلى عثمان زوج ابنته ما كان حديثا يُفْتَرَى , وعلى ابن عمه علي بحر العلوم وأسد الشرى , وعلى بقية آله وأصحابه الذين انتشر فضلهم

الورى , وسلم تسليما .
إخواني : لقد أظلنا شهر " كريم " وموسم " عظيم " ، يعظم الله فيه الأجر ويجزل المواهب , ويفتح أبواب الخير فيه لكل راغب , شهر الخيرات والبركات , شهر المنح والهبات , { شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ } , شهر " محفوف " بالرحمة والمغفرة والعتق من النار, أوله رحمة وأوسطه مغفرة وآخره عتق من النار ، اشتهرت بفضله الأخبار ، وتواترت فيه الآثار ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « إذا جاء رمضان فُتِّحت أبواب الجنة وغُلِّقت أبواب النار وصُفِّدت الشياطين » (1) ، وإنما تفتح أبواب الجنة في هذا الشهر لكثرة الأعمال الصالحة وترغيبا للعاملين ، وتغلق أبواب النار لقلة المعاصي من أهل الإيمان ، وتصفد الشياطين فتُغَلُّ فلا يخلصون إلى ما يخلصون إليه في غيره .
_________
(1) متفق عليه .

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « أُعْطِيَتْ أمتي خمس خصال في رمضان لم تُعْطَهُنَّ أمة من الأمم قبلها : خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك , وتستغفر لهم الملائكة حتى يفطروا , ويزين الله كل يوم جنته ويقول : يوشك عبادي الصالحون أن يلقوا عنهم المؤونة والأذى ويصيروا إليك , وتصفد فيه مَرَدَة الشياطين فلا يخلصون إلى ما كانوا يخلصون إليه في غيره , ويغفر لهم في آخر ليلة " , قيل : يا رسول الله أهي ليلة القدر ؟ قال : " لا ولكن العامل إنما يوفى أجره إذا قضى عمله » (1) .
إخواني : هذه الخصال الخمس ادخرها الله لكم وخصكم بها من بين سائر الأمم , ومنَّ بها عليكم ليتمم بها عليكم النعم , وكم لله من نعم وفضائل : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ } [ آل عمران : 110 ] .
_________
(1) رواه أحمد والبزار والبيهقي وأبو الشيخ في كتاب الثواب ، وإسناده ضعيف جدا لكن لبعضه شواهد .

* الخصلة الأولى : « أن خُلُوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك » (1) , والخلوف بضم الخاء أو فتحها تغير رائحة الفم عند خلو المعدة من الطعام , وهي رائحة مستكرهة عند الناس لكنها عند الله أطيب من رائحة المسك ؛ لأنها ناشئة عن عبادة الله وطاعته , وكل ما نشأ عن عبادته وطاعته فهو محبوب عنده سبحانه يعوِّض عنه صاحبه ما هو خير وأفضل وأطيب , ألا ترون إلى الشهيد الذي قُتِل في سبيل الله يريد أن تكون كلمة الله هي العليا يأتي يوم القيامة وجرحه يثعب دما لونه لون الدم وريحه ريح المسك ؟ وفي الحج يباهي الله الملائكة بأهل الموقف فيقول سبحانه : « انظروا إلى عبادي هؤلاء جاءوني شُعثا غُبرا » (2) ، وإنما كان الشَّعَث محبوبا إلى الله في هذا الموطن لأنه ناشئ عن طاعة الله باجتناب محظورات الإحرام وترك الترفه .
_________
(1) رواه البخاري ومسلم بدون تخصيص بهذه الأمة .
(2) رواه أحمد وابن حبان في صحيحه وهو صحيح بشواهده .

* الْخَصلة الثانية : « أن الملائكة تستغفر لهم حتى يفطروا » ، والملائكة عباد مكرَمون عند الله لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ، فهم جديرون بأن يستجيب الله دعاءهم للصائمين حيث أذن لهم به ، وإنما أذن الله لهم بالاستغفار للصائمين من هذه الأمة تنويها بشأنهم ، ورفعة لذكرهم ، وبيانا لفضيلة صومهم , والاستغفار طلب المغفرة , وهي ستر الذنوب في الدنيا والآخرة والتجاوز عنها , وهي من أعلى المطالب وأسمى الغايات , فكل بني آدم خطاءون مسرفون على أنفسهم مضطرون إلى مغفرة الله عز وجل .
الخصلة الثالثة : « أن الله يزين كل يوم جنته ويقول : يوشك عبادي الصالحون أن يلقوا عنهم المؤونة والأذى ويصيروا إليك » فيزين الله تعالى جنته كل يوم تهيئة لعباده الصالحين وترغيبا في الوصول إليها , ويقول سبحانه : يوشك عبادي الصالحون أن يلقوا عنهم المؤونة والأذى , يعني مؤونة الدنيا وتعبها وأذاها ، ويُشَمِّروا إلى الأعمال الصالحة التي فيها سعادتهم في الدنيا والآخرة ، والوصول إلى دار السلام والكرامة .

* الخصلة الرابعة : « أن مردة الشياطين يُصَفَّدون » (1) « بالسلاسل والأغلال » ، فلا يصلون إلى ما يريدون من عباد الله الصالحين من الإضلال عن الحق والتثبيط عن الخير , وهذا من معونة الله لهم أن حبس عنهم عدوهم الذي يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير , ولذلك تجد عند الصالحين من الرغبة في الخير والعزوف عن الشر في هذا الشهر أكثر من غيره .
* الخصلة الخامسة : « أن الله يغفر لأمة محمد صلى الله عليه وسلم في آخر ليلة من هذا الشهر » (2) إذا قاموا بما ينبغي أن يقوموا به في هذا الشهر المبارك من الصيام والقيام تفضلا منه سبحانه بتوفية أجورهم عند انتهاء أعمالهم , فإن العامل يوفى أجره عند انتهاء عمله ) .
وقد تفضل سبحانه على عباده بهذا الأجر من وجوه ثلاثة :
_________
(1) رواه البخاري ومسلم بلفظ : صفدت الشياطين , وابن خزيمة بلفظ : الشياطين مردة الجن ، وفي رواية للنسائي : مردة الشياطين . وكلهم من حديث أبي هريرة بدون تخصيص بهذه الأمة .
(2) روى نحوه البيهقي من حديث جابر , قال المنذري : وإسناده مقارب أصلح مما قبله يعني حديث أبي هريرة الذي في الأصل .

* الوجه الأول : أنه شرع لهم من الأعمال الصالحة ما يكون سببا لمغفرة ذنوبهم ورفعة درجاتهم , ولولا أنه شرع ذلك ما كان لهم أن يتعبدوا لله بها ؛ إذ العبادة لا تؤخذ إلا من وحي الله على رسله , ولذلك أنكر الله على من يُشَرِّعون من دونه ، وجعل ذلك نوعا من الشرك فقال سبحانه : { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ الشورى : 21 ] .
* الوجه الثاني : أنه وفَّقَهم للعمل الصالح وقد تركه كثير من الناس , ولولا معونة الله لهم وتوفيقه ما قاموا به , فلله الفضل والمنة بذلك .
{ يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } [ الحجرات : 17 ] .
* الوجه الثالث : أنه تفضل بالأجر الكثير , الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة , فالفضل من الله بالعمل والثواب عليه ، والحمد لله رب العالمين .

إخواني : بلوغ رمضان نعمة كبيرة على من بلغه وقام بحقه بالرجوع إلى ربه من معصيته إلى طاعته , ومن الغفلة عنه إلى ذكره , ومن البعد عنه إلى الإنابة إليه .

يا ذا الذي ما كفاه الذنبُ في رجبٍ ... حتى عصى ربه في شهر شعبانِ
لقد أظلَّك شهر الصوم بعدهما ... فلا تُصَيِّرْهُ أيضا شهرَ عصيانِ
واتل القُرَان وسبح فيه مجتهدا ... فإنه شهر تسبيح وقرآنِ
كم كنت تعرف ممن صام في سَلَفٍ ... من بين أهل وجيران وإخوانِ
أفناهمُ الموت واستبقاك بعدهمو ... حَيًّا فما أقرب القاصي من الداني

اللهم أيقِظْنا من رقدات الغفلة , ووفقنا للتزود من التقوى قبل النُّقْلة , وارزقنا اغتنام الأوقات في ذي المهلة , واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .